سورة الفرقان - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)}
اعلم أن الله سبحانه وتعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة، ثم ختمها بذكر صفات العباد المخلصين الموقنين، ولما كان إثبات الصانع وإثبات صفات جلاله يجب أن يكون مقدماً على الكل لا جرم افتتح الله هذه السورة بذلك فقال: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: تبارك: تفاعل من البركة، والبركة كثرة الخير وزيادته وفيه معنيان: أحدهما: تزايد خيره وتكاثر، وهو المراد من قوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] والثاني: تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو المراد من قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] وأما تعاليه عن كل شيء في ذاته، فيحتمل أن يكون المعنى جل بوجوب وجوده وقدمه عن جواز الفناء والتغير عليه، وأن يكون المعنى جل بفردانيته ووحدانيته عن مشابهة شيء من الممكنات، وأما تعاليه عن كل شيء في صفاته فيحتمل أن يكون المعنى جل أن يكون علمه ضرورياً أو كسبياً أو تصوراً أو تصديقاً وفي قدرته أن يحتاج إلى مادة ومدة ومثال وجلب غرض ومنال، وأما في أفعاله فجل أن يكون الوجود والبقاء وصلاح حال الوجود إلا من قبله، وقال آخرون: أصل الكلمة تدل على البقاء، وهو مأخوذ من بروك البعير، ومن بروك الطير على الماء، وسميت البركة بركة لثبوت الماء فيها، والمعنى أنه سبحانه وتعالى باق في ذاته أزلاً وأبداً ممتنع التغير وباق في صفاته ممتنع التبدل، ولما كان سبحانه وتعالى هو الخالق لوجوه المنافع والمصالح والمبقى لها وجب وصفه سبحانه بأنه تبارك وتعالى.
المسألة الثانية: قال أهل اللغة: كلمة (الذي) موضوعة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه بقضية معلومة، وعند هذا يتوجه الإشكال، وهو أن القوم ما كانوا عالمين بأنه سبحانه هو الذي نزل الفرقان فكيف حسن هاهنا لفظ (الذي)؟ وجوابه: أنه لما قامت الدلالة على كون القرآن معجزاً ظهر بحسب الدليل كونه من عند الله، فلقوة الدليل وظهوره أجراه سبحانه وتعالى مجرى المعلوم.
المسألة الثالثة: لا نزاع أن الفرقان هو القرآن وصف بذلك من حيث إنه سبحانه فرق به بين الحق والباطل في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبين الحلال والحرام، أو لأنه فرق في النزول كما قال: {وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} [الإسراء: 106] وهذا التأويل أقرب لأنه قال: {نَزَّلَ الفرقان} ولفظة (نزل) تدل على التفريق، وأما لفظة (أنزل) فتدل على الجمع، ولذلك قال في سورة آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق... وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3] واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال أولاً {تبارك} ومعناه كثرة الخير والبركة، ثم ذكر عقبه أمر القرآن دل ذلك على أن القرآن منشأ الخيرات وأعم البركات، لكن القرآن ليس إلا منبعاً للعلوم والمعارف والحكم، فدل هذا على أن العلم أشرف المخلوقات وأعظم الأشياء خيراً وبركة.
المسألة الرابعة: لا نزاع أن المراد من العبد هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن الزبير على عباده وهم رسول الله وأمته كما قال: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ} [الأنبياء: 10]، {قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]، وقوله: {لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً} فالمراد ليكون هذا العبد نذيراً للعالمين، وقول من قال: إنه راجع إلى الفرقان فأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله: {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى} [الإسراء: 9] فبعيد وذلك لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف، وإذا وصف به القرآن فهو مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن هو الواجب، ثم قالوا هذه الآية تدل على أحكام: الأول: أن العالم كل ما سوى الله تعالى ويتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، لكنا أجمعنا أنه عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الملائكة فوجب أن يكون رسولاً إلى الجن والإنس جميعاً، ويبطل بهذا قول من قال إنه كان رسولاً إلى البعض دون البعض الثاني: أن لفظ {العالمين} يتناول جميع المخلوقات فدلت الآية على أنه رسول للخلق إلى يوم القيامة، فوجب أن يكون خاتم الأنبياء والرسل الثالث: قالت المعتزلة دلت الآية على أنه سبحانه أراد الإيمان وفعل الطاعات من الكل، لأنه إنما بعثه إلى الكل ليكون نذيراً للكل، وأراد من الكل الاشتغال بالحسن والإعراض عن القبيح وعارضهم أصحابنا بقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179] الآية.
الرابع: لقائل أن يقول إن قوله: {تبارك} كما دل على كثرة الخير والبركة لابد وأن يكون المذكور عقيبه ما يكون سبباً لكثرة الخير والمنافع، والإنذار يوجب الغم والخوف فكيف يليق هذا لهذا الموضع؟ جوابه: أن هذا الإنذار يجري مجرى تأديب الولد، وكما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر كان الإحسان إليه أكثر، لما أن ذاك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة، فكذا هاهنا كلما كان الإنذار كثيراً كان رجوع الخلق إلى الله أكثر، فكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة، وذلك لأنه سبحانه لما وصف نفسه بأنه الذي يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين، ولم يذكر ألبتة شيئاً من منافع الدنيا.
ثم إنه سبحانه وصف ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء أولها: قوله: {الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} وهذا كالتنبيه على الدلالة على وجوده سبحانه لأنه لا طريق إلى إثباته إلا بواسطة احتياج أفعاله إليه، فكان تقديم هذه الصفة على سائر الصفات كالأمر الواجب وقوله: {لَّهُ مَا فِي السموات والأرض} إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه بزمان حدوثها وزمان بقائها في ماهيتها وفي وجودها، وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء.
وثانيها: قوله: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} فبين سبحانه أنه هو المعبود أبداً، ولا يصح أن يكون غيره معبوداً ووارثاً للملك عنه فتكون هذه الصفة كالمؤكدة لقوله: {تبارك} ولقوله: {الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} وهذا كالرد على النصارى.
وثالثها: قوله: {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} والمراد أنه هو المنفرد بالإلهية، وإذا عرف العبد ذلك انقطع خوفه ورجاؤه عن الكل، ولا يبقى مشغول القلب إلا برحمته وإحسانه. وفيه الرد على الثنوية والقائلين بعبادة النجوم والقائلين بعبادة الأوثان.
ورابعها: قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} وفيه سؤالات:
الأول: هل في قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيء} دلالة على أنه سبحانه خالق لأعمال العباد؟ والجواب: نعم من وجهين:
الأول: أن قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيء} يتناول جميع الأشياء فيتناول أفعال العباد، والثاني: وهو أنه تعالى بعد أن نفى الشريك ذكر ذلك، والتقدير أنه سبحانه لما نفى الشريك كأن قائلاً قال: هاهنا أقوام يعترفون بنفي الشركاء والأنداد، ومع ذلك يقولون إنهم يخلقون أفعال أنفسهم فذكر الله تعالى هذه الآية لتكون معينة في الرد عليهم، قال القاضي الآية لا تدل عليه لوجوه:
أحدها: أنه سبحانه صرح بكون العبد خالقاً في قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} [المائدة: 110] وقال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].
وثانيها: أنه سبحانه تمدح بذلك فلا يجوز أن يريد به خلق الفساد.
وثالثها: أنه سبحانه تمدح بأنه قدره تقديراً ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره، فثبت بهذه الوجوه أنه لابد من التأويل لو دلت الآية بظاهرها عليه، فكيف ولا دلالة فيها ألبتة، لأن الخلق عبارة عن التقدير فهو لا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير، وذلك إنما يظهر في الأجسام لا في الأعراض والجواب:
أما قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ} وقوله: {أَحْسَنُ الخالقين} فهما معارضان بقوله: {الله خالق كُلّ شَيء} [الزمر: 62] وبقوله: {هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله} [فاطر: 3] وأما قوله لا يجوز التمدح بخلق الفساد، قلنا لم لا يجوز أن يقع التمدح به نظراً إلى تقادير القدرة وإلى أن صفة الإيجاد من العدم والإعدام من الوجود ليست إلا له؟ وأما قوله: الخلق لا يتناول إلا الأجسام، فنقول لو كان كذلك لكان قوله: {خَلَقَ كُلَّ شَيء} خطأ لأنه يقتضي إضافة الخلق إلى جميع الأشياء مع أنه لا يصح في العقل إضافته إليها.
السؤال الثاني: في الخلق معنى التقدير (فقوله): {وَخَلَقَ كُلَّ شَيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (معناه) وقدر كل شيء فقدره تقديراً؟ والجواب: المعنى (أنه) أحدث كل شيء إحداثاً يراعي فيه التقدير والتسوية، فقدره تقديراً وهيأه لما يصلح له، مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر (المستوي) الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة (به في باب) الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير فقدره لأمر ما ومصلحة ما مطابقاً لما قدر (له) غير (متخلف) عنه.
السؤال الثالث: هل في قوله: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} دلالة على مذهبكم؟
الجواب: نعم وذلك من وجوه:
أحدها: أن التقدير في حقنا يرجع إلى الظن والحسبان، أما في حقه سبحانه فلا معنى له إلا العلم به والإخبار عنه، وذلك متفق عليه بيننا وبين المعتزلة، فلما علم في الشيء الفلاني أنه لا يقع فلو وقع ذلك الشيء لزم انقلاب علمه جهلاً وانقلاب خبره الصدق كذباً، وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فإذن وقوع ذلك الشيء محال والمحال غير مراد فذلك الشيء غير مراد وإنه مأمور به، فثبت أن الأمر والإرادة لا يتلازمان، وظهر أن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه.
وثانيها: أنه عند حصول القدرة والداعية الخالصة إن وجب الفعل، كان فعل العبد يوجب فعل الله تعالى، وحينئذ يبطل قول المعتزلة، وإن لم يجب فإن استغنى عن المرجح فقد وقع الممكن لا عن مرجح وتجويزه يسد باب إثبات الصانع وإن لم يستغن عن المرجح، فالكلام يعود في ذلك المرجح، ولا ينقطع إلا عند الانتهاء إلى واجب الوجود.
وثالثها: أن فعل العبد لو وقع بقدرته لما وقع إلا الشيء الذي أراد تكوينه وإيجاده، لكن الإنسان لا يريد إلا العلم والحق فلا يحصل له إلا الجهل والباطل، فلو كان الأمر بقدرته لما كان كذلك، فإن قيل إنما كان لأنه اعتقد شبهة أوجبت له ذلك الجهل، قلنا إن اعتقد تلك الشبهة لشبهة أخرى لزم التسلسل وهو محال فلابد من الانتهاء إلى جهل أول، ووقع في قلب الإنسان لا بسبب جهل سابق، بل الإنسان أحدثه ابتداء من غير موجب، وذلك محال لأن الإنسان قط لا يرضى لنفسه بالجهل ولا يحاول تحصيل الجهل لنفسه بل لا يحاول إلا العلم، فوجب أن لا يحصل له إلا ما قصده وأراده، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الكل بقضاء سار وقدر نافذ، وهو المراد من قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}.


{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)}
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردف ذلك بتزييف مذهب عبدة الأوثان وبين نقصانها من وجوه:
أحدها: أنها ليست خالقة للأشياء، والإله يجب أن يكون قادراً على الخلق والإيجاد.
وثانيها: أنها مخلوقة والمخلوق محتاج، والإله يجب أن يكون غنياً.
وثالثها: أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً، ومن كان كذلك فهو لا يملك لغيره أيضاً نفعاً، ومن كان كذلك فلا فائدة في عبادته.
ورابعها: أنها لا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، أي لا تقدر على الإحياء والإماتة في زمان التكليف وثانياً في زمان المجازاة، ومن كان كذلك كيف يسمى إلهاً؟ وكيف يحسن عبادته مع أن حق من يحق له العبادة أن ينعم بهذه النعم المخصوصة، وهاهنا سؤالات:
الأول: قوله: {واتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً} هل يختص بعبدة الأوثان أو يدخل فيه النصارى وعبدة الكواكب وعبدة الملائكة؟ والجواب: قال القاضي: بعيد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع، فالأقرب أن المراد به عباد الأصنام، ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن لمعبودهم كثرة، ولقائل أن يقول قوله: {واتخذوا} صيغة جمع وقوله: {ءالِهَةً} جمع، والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل المفرد بالمفرد، فلم يكن كون معبود النصارى واحداً مانعاً من دخوله تحت هذا اللفظ.
السؤال الثاني: احتج بعض أصحابنا بقوله: {واتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقال: إن الله تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئاً، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد، فلو كان العبد خالقاً لكان معبوداً إلهاً، أجاب الكعبي عنه بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى.
وقال بعض أصحابنا في الخلق إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب، ولا يكون ذلك إلا لله تعالى، ثم قال: وقد قال تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] في وصف الأصنام أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد؟ فإذا قالوا لا قيل فكذلك ما ذكرتم، وقد قال تعالى: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] هذا كله كلام الكعبي والجواب: قوله لا يطلق اسم الخالق على العبد، قلنا بل يجب ذلك لأن الخلق في اللغة هو التقدير، والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان، فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازاً في الله تعالى، فكيف يمكنكم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد؟ أما قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} فالعيب إنما وقع عليهم بالعجز فلا جرم أن كل من تحقق العجز في حقه من بعض الوجوه لم يحسن عبادته.
وأما قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} فقد تقدم الكلام عليه.
واعلم أن هذه الآية لا يقوى استدلال أصحابنا بها لاحتمال أن العيب لا يحصل إلا بمجموع أمرين: أحدهما أنهم ليسوا بخالقين، والثاني أنهم مخلوقون، والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه مخلوق فلزم أن لا يكون إلهاً معبوداً.
السؤال الثالث: هل تدل هذه الآية على البعث؟
الجواب: نعم لأنه تعالى ذكر النشور ومعناه أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين والعقاب إلى العصاة، فمن لا يكون كذلك وجب أن لا يصلح للإلهية.


{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)}
اعلم أنه سبحانه تكلم أولاً في التوحيد، وثانياً في الرد على عبدة الأوثان، وثالثاً في هذه الآية تكلم في مسألة النبوة، وحكى سبحانه شبههم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الشبهة الأولى: قولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه} وأعانه عليه قوم آخرون، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] واعلم أنه يحتمل أن يريدوا به أنه كذب في نفسه، ويحتمل أن يريدوا به أنه كذب في إضافته إلى الله تعالى، ثم هاهنا بحثان:
الأول: قال أبو مسلم: الافتراء افتعال من فريت، وقد يقال في تقدير الأديم فريت الأديم، فإذا أريد قطع الإفساد قيل أفريت وافتريت وخلقت واختلقت، ويقال فيمن شتم امرءاً بما ليس فيه افترى عليه.
البحث الثاني: قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث فهو الذي قال هذا القول {وأعانه عليه قوم آخرون} يعني عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار (غلام عامر) بن الحضرمي، وجبر مولى عامر، وهؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب، وكانوا يقرأون التوراة ويحدثون أحاديث منها فلما أسلموا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال.
واعلم أن الله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: {فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً} وفيه أبحاث:
الأول: أن هذا القدر إنما يكفي جواباً عن الشبهة المذكورة، لأنه قد علم كل عاقل أنه عليه السلام تحداهم بالقرآن وهم النهاية في الفصاحة، وقد بلغوا في الحرص على إبطال أمره كل غاية، حتى أخرجهم ذلك إلى ما وصفوه به في هذه الآيات، فلو أمكنهم أن يعارضوه لفعلوا، ولكان ذلك أقرب إلى أن يبلغوا مرادهم فيه مما أوردوه في هذه الآية وغيرها، ولو استعان محمد عليه السلام في ذلك بغيره لأمكنهم أيضاً أن يستعينوا بغيرهم، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم كأولئك المنكرين في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة، فلما لم يفعلوا ذلك والحالة هذه علم أن القرآن قد بلغ النهاية في الفصاحة وانتهى إلى حد الإعجاز، ولما تقدمت هذه الدلالة مرات وكرات في القرآن وظهر بسببها سقوط هذا السؤال، ظهر أن إعادة هذا السؤال بعد تقدم هذه الأدلة الواضحة لا يكون إلا للتمادي في الجهل والعناد، فلذلك اكتفى الله في الجواب بقوله: {فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً}.
البحث الثاني: قال الكسائي: قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً} أي أتوا ظلماً وكذباً وهو كقوله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} [مريم: 89] فانتصب بوقوع المجيء عليه، وقال الزجاج: انتصب بنزع الخافض، أي جاءوا بالظلم والزور.
البحث الثالث: أن الله تعالى وصف كلامهم بأنه ظلم وبأنه زور، أما أنه ظلم فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه وذلك هو الظلم، وأما الزور فلأنهم كذبوا فيه، وقال أبو مسلم: الظلم تكذيبهم الرسول والرد عليه، والزور كذبهم عليهم.
الشبهة الثانية لهم: قوله تعالى: {وَقَالُواْ أساطير الأولين اكتتبها فَهِىَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} وفيه أبحاث:
البحث الأول: الأساطير ما سطره المتقدمون كأحاديث رستم واسفنديار، جمع أسطار أو أسطورة كأحدوثة {اكتتبها} انتسخها محمد من أهل الكتاب يعني عامراً ويساراً وجبراً، ومعنى اكتتب هاهنا أمر أن يكتب له كما يقال احتجم وافتصد إذا أمر بذلك {فَهِىَ تملى عَلَيْهِ} أي تقرأ عليه والمعنى أنها كتبت له وهو أمي فهي تلقي عليه من كتابه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب.
أما قوله: {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} قال الضحاك ما يملى عليه بكرة يقرؤه عليكم عشية، وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة.
البحث الثاني: قال الحسن قوله: {فَهِىَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} كلام الله ذكره جواباً عن قولهم كأنه تعالى قال إن هذه الآيات تملى عليه بالوحي حالاً بعد حال، فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين، وأما جمهور المفسرين فقد اتفقوا على أن ذلك من كلام القوم، وأرادوا به أن أهل الكتاب أملوا عليه في هذه الأوقات هذه الأشياء ولا شك أن هذا القول أقرب لوجوه:
أحدها: شدة تعلق هذا الكلام بما قبله، فكأنهم قالوا اكتتب أساطير الأولين فهي تملى عليه.
وثانيها: أن هذا هو المراد بقولهم: {وأعانه عليه قوم آخرون}.
وثالثها: أنه تعالى أجاب بعد ذلك عن كلامهم بقوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر} قال صاحب الكشاف، وقول الحسن إنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار وحق الحسن أن يقف على {الأولين}، وأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السموات والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} وفيه أبحاث:
البحث الأول: في بيان أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة؟ وتقريره ما قدمنا أنه عليه السلام تحداهم بالمعارضة وظهر عجزهم عنها ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن بأن استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد فيأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه، فلهذا قال: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر} وذلك لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لابد وأن يكون عالماً بكل المعلومات ظاهرها وخافيها من وجوه:
أحدها: أن مثل هذه الفصاحة لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات.
وثانيها: أن القرآن مشتمل على الإخبار عن الغيوب، وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات.
وثالثها: أن القرآن مبرأ عن النقص وذلك لا يتأتى إلا من العالم على ما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82].
ورابعها: اشتماله على الأحكام التي هي مقتضية لمصالح العالم ونظام العباد، وذلك لا يكون إلا من العالم بكل المعلومات.
وخامسها: اشتماله على أنواع العلوم وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات، فلما دل القرآن من هذه الوجوه على أنه ليس إلا كلام بكل المعلومات لا جرم اكتفى في جواب شبههم بقوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر}.
البحث الثاني: اختلفوا في المراد بالسر، فمنهم من قال المعنى أن العالم بكل سر في السموات والأرض هو الذي يمكنه إنزال مثل هذا الكتاب، وقال أبو مسلم: المعنى أنه أنزله من يعلم السر فلو كذب عليه لانتقم منه لقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} [الحاقة: 44] وقال آخرون: المعنى أنه يعلم كل سر خفي في السموات والأرض، ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله مع علمكم بأن ما يقوله حق ضرورة، وكذلك باطن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبراءته مما تتهمونه به، وهو سبحانه مجازيكم ومجازيه على ما علم منكم وعلم منه.
البحث الثالث: إنما ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع لوجهين:
الأول: قال أبو مسلم المعنى أنه إنما أنزله لأجل الإنذار فوجب أن يكون غفوراً رحيماً غير مستعجل في العقوبة الثاني: أنه تنبيه على أنهم استوجبوا بمكايدتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً ولكن صرف ذلك عنهم كونه غفوراً رحيماً يمهل ولا يعجل.
الشبهة الثالثة: وهي في نهاية الركاكة ذكروا له صفات خمسة فزعموا أنها تخل بالرسالة إحداها: قولهم: {مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} وثانيتها: قولهم: {وَيَمْشِى فِي الأسواق} يعني أنه لما كان كذلك فمن أين له الفضل علينا وهو مثلنا في هذه الأمور وثالثتها: قولهم: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} يصدقه أو يشهد له ويرد على من خالفه ورابعتها: قولهم: {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أي من السماء فينفقه فلا يحتاج إلى التردد لطلب المعاش وخامستها: قولهم: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ حمزة والكسائي {نَّأْكُلَ مِنْهَا} بالنون وقرأ الباقون بالياء والمعنى إن لم يكن لك كنز فلا أقل من أن تكون كواحد من الدهاقين فيكون لك بستان تأكل منه وسادستها: قولهم: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} وقد تقدمت هذه القصة في آخر سورة بني إسرائيل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه:
أحدها: قوله: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} وفيه أبحاث:
الأول: أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة؟ وبيانه أن الذي يتميز الرسول به عن غيره هو المعجزة وهذه الأشياء التي ذكروها لا يقدح شيء منها في المعجزة فلا يكون شيء منها قادحاً في النبوة، فكأنه تعالى قال انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلاً ألبتة إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول وفيه وجه آخر وهو أنهم لما ضلوا لم يبق فيهم استطاعة قبول الحق، وهذا إنما يصح على مذهبنا وتقريره بالعقل ظاهر، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مستوى الداعي إلى الحق والباطل، وإما أن يكون داعيته إلى أحدهما أرجح من داعيته إلى الثاني، فإن كان الأول فحال الاستواء ممتنع الرجحان فيمتنع الفعل وإن كان الثاني فحال رجحان أحد الطرفين يكون حصول الطرف الآخر ممتنعاً، فثبت أن حال رجحان الضلالة في قلبه استحال منه قبول الحق، وما كان محالاً لم يكن عليه قدرة، فثبت أنهم لما ضلوا ما كانوا مستطيعين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8